إنقاذ الواد الحيلة
ما تكاد تبتعد خطوات قليلة عن باب دار أبيها حتى تعود مسرعة لتلتقط من يد
أمها شيئا نسيت ارتداءه وهي خارجة، فمرة نعالها ومرة حجابها ومرة عباءة خروجها
السوداء، أرملة في منتصف الأربعينات دفعها خوفها وجزعها للخروج حافية القدمين
عارية الرأس ترتدي جلباب بيتي أسود، تسبق خطواتها الرياح وتطوي الأرض من تحت
قدميها كأعواد الربيع، وظلت علي هرولتها الهاجرية حتى وصلت إلي منزل أهل زوجها
المرحوم، ولأول مرة منذ عشر سنوات تدخل إلي المنزل منذ أن خرجت منه مريضة تصارع
أحزان فراق زوجها، تستنجد بأخيه لينقذ ابنها الوحيد، الطالب بالسنة النهائية
بهندسة عين شمس، فقد هاتفها اليوم طالبا منها أن تسامحه لأنه متوجها إلي ميدان
رابعة العدوية ويظن انه سيلقي الشهادة اليوم هناك.
هاتف العم ابن أخيه طالباً منه الحضور فورا، ولكن الابن رفض مفنداً أسباب
ذهابه إلي رابعة العدوية ومعددا الدوافع والقيم الإنسانية لمناصرة الحق ومرتلاً
لبعض آيات كتاب الله التي تحث علي مجابه الظلم والطغيان، والعم يكاد غيظه يفتك به
وقد احمر وجهه كقرص شمس يغيب، لم يكن متوقعا أبدا أن ابن أخيه - وهو الذكي النبيه -
يقع ضحية للمتاجرين بالدين، فكل التقارير الحكومية الرسمية ووسائل الإعلام التي
يحرص علي متابعتها ليل نهار تؤكد حقيقة أن الإخوان المسلمين ما هي إلا جماعة
إرهابية "تخطف" الشباب الصغير ذهنياً وتستدرجهم للقيام بأعمال عنف
بذريعة نصرة الدين، وان لم يكونوا كذلك فلماذا يشترك الإمام الأكبر شيخ الأزهر – والتي
تتوسط صورته جدران غرفة الجلوس معلقة بين صورة المرحوم أبو مهندس المستقبل وجده - في
مساعدة الجيش للإطاحة برئيس الإخوان، ما الذي جري لابن أخي أمل أمه وظل أبيه وعوضي
عن عقمي. ثم أمر امرأته بإحضار جلبابه وعمامته ومحفظته وطلب من المرأتين أن يكتمن
الخبر عن الجدة، وان يقولن لها بأنه سافر إلي مصر للعزاء في احد أبناء القرية
المقيمين هناك.
وساق تلك الحجة لكل من يسأله عن سبب سفره إلي القاهرة حتى وان كان السائل
عابر سبيل وكأن العم يريد أن يخبئ "عار" مشاركة ابن أخيه "مهندس
الغد" مع رعاع القوم، وأرادت السماء أن تلطف من حدة الغضب فأرسلت إليه رفيقاً
تقابلا في القطار، وهو احد المعارف القدماء من ذات المركز فالرفيق تاجر أمين سيرته
تناقلها الناس بأطيب الكلمات في العلن وفي ظهر الغيب. فقطع سيف الكلمات شقاء السفر
وهونت الضحكات من هول القهر وأذن الفجر وقد وصل القطار إلي محطة رمسيس، صليا الفجر
وتفرقا، ذهب كل منهم في طريقه، ثم استقل العم تاكسي ليصل به إلي رابعة، وقد اشترط
السائق الحصول علي أربع أضعاف أجرة التوصيل العادية لأن اليوم علي حد وصفه هو يوم "دبح
الخرفان".
وصل إلي رابعة واستوقفته لجان التأمين، وسمح له بالدخول فور التأكد من عدم
حمل سلاح، وما كاد يتصل علي ابن أخيه حتي "عينك ما تشوف إلا النور" بدء
الضرب قنابل الغاز المسيل للدموع، فساد الهرج والمرج، فزاد قلقه علي ابن أخيه أكثر
وأكثر، واخذ يتطلع في الوجوه المألوفة وقد ارتسمت عليها علامات الخوف مع بدء الضرب
بالرصاص الحي، وصراخ الأطفال وأزيز الطائرات يعم المكان، والنساء في صمودهن ينافسن
الرجال، وغض طرفه عن امرأة عجوز تساقطت أمامه ولم يحاول مساعدتها، وعن معوق هوي
بكرسيه المتحرك حاملاٍ القران، وعن طفل يمسك بتلابيب جلبابه يسأله عن أمه وأبيه،
وعن شاب جريح يلوح له بكفه التي تظهر عليها اثأر حريق قديم، وكأنه يعيش كابوس، كل
من حوله يطلبون مساعدته ولكن هو في شغل عنهم فلم يرد شيئاً يعطله عن إيجاد ابن
أخيه.
وازدادت وطأة الأحداث، وسال الدم في الطرقات، ورابعه تغتصب من كل الجنبات،
يحيط بها زبانية غلاظ وكأنهم ذئاب جياع أطلقت علي خراف لا راعي لها، وكأن هذا ما
قصده سائق التاكسي بأن اليوم "دبح الخرفان"! حتى ذبح الحيوان له حرمة،
فذابح الحيوان يكبر ولكن هنا ذبيح الإنس هو الذي يكبر، من انتم ومن أين أتيتم،
ومنت السماء عليه بالتواصل مع ابن أخيه، وتفاجئ مهندس المستقبل بوجود عمه في رابعة
وشعر بتأنيب ضمير لأنه احضره من أقصي الصعيد في هذا اليوم المشئوم، وبصعوبة
استطاعا اللقاء، وهما يحاولان الاختباء من سيل الرصاص.
وفي رحلة البحث عن مخرج آمن اقتاد العم ابن أخيه وراء ظهره رافعاً قطعة
قماش بيضاء يسير في خطوط معرجة كالثعبان، وفجأة صرخ الشاب لرؤية احد الشباب ينزف
بغزاره وحاول إنقاذه، إلا أن العم اجبره علي الاختباء، وتكررت المواقف كثيراً
وموقف العم ثابت، رائحة الموت عمت المكان وأصبحت الأرض كوكبا احمر من نزيف الدماء
والموت ينقي انقي الوجوه وأكثرها بشاشة، وفجأة تغيرت ملامح العم، فقد وقعت عيناه
علي رجل يحتضر متأثرا بطلق ناري نافذ في الرقبة، نعم انه رفيق القطار التاجر
الآمين، فجري نحوه يحاول إنقاذه، تاركا أخلاق الجبن والخنوع، جري نحوه في لحظة "صدق
أخلاقي"، فأصابته رصاصة من قناص يهوي قتل "المخطوفين ذهنيا"، مضي
ابن الأخ علي إقرار بان عمه مات منتحرا لأنها الوسيلة الوحيدة التي يتمكن بها من
اخذ الجثمان، عاد به في عربة نقل الموتي، وامسك بصورة كبيرة للعم، وضع خطوط حداد
علي ركنيها، وتوجه إلي جدران الصور في غرفة الجلوس، ونظر إلي الثلاث صور المعلقة،
وامتدت يده إلي أوسطها ليستبدلها بصورة العم المنتحر عند الحكومة المخطوف ذهنيا
عند الإعلام الشهيد – بإذن الله- عند الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شارك برأيك