في عام 2060 وفي احدي الليالي الشتوية الممطرة، حالكة السواد قمرها مازال بدرا وضياء مصابيحها انعدم لانقطاع التيار الكهربائي بسبب الامطار الغزيرة، تجمع اطفال البيت حول الجدة العجوز ناصعة البياض لم يتستطع الزمن التغلب علي جمال عينها ولا ابتسامتها الرقيقة ومازالت وجنتيها يشعان حمرة تحت تجاعيد الشيخوخة، وكعادتها في مثل هذه الظروف تلهب العجوز مسامع الاطفال بحكاية من اساطير الماضي، وبدات العجوز سرد الحكاية بقولها
كان ياماكان في سالف العصر والزمان قرية عزيزة وشبابها حر كالصقور ، اسمها طوخ واهلها من اعز الناس، من شتات وشتات وحدتهم بقلبها الطيب وانفاسها العطرة، نسيوا فيها هم مين ومنين، وقلعوا من علي رؤسهم عمامات الطائفية والقبلية، عاشوا فيها كالعيلة الواحدة، تسابق الجميع ان يكون في الاخر لقبه الطوخي، وفي وسط بحور من فتن القبلية ظل الطوخي راسه فوق، محاولش يشعبط ولا يركب الموجه، ولسان حاله يقول كفايا ان انا الطوخي.
وفي سنة 1914 اي من حوالي 150 عام فتحوا مدرسة فيها للتعليم، عيال صغار يجوها من دروبها ومن بعيد، ايشي بحمار وايشي ماشي مشي كيلومترات، كسرة بتاو ولبن عنيز فطاره وعشاه، قالوا عليها اللابتدائية بس اللي يروحها سنة ولا اتنين يصير لبلب، يفك الخط مرتين ويربطه تلات مرات، اه عليك يابلد العلم انتي عاشقاه ولولادك مشرباه، بيه شبابك خادمك وخدامك عشان خاطر عينيك بس ، ومع غيرك تلاقيه سيد من الاسياد. وعدت السنين والعيال صاروا مشايخ اجلاء، الشيخ فلاني فتح مكتب تحفيظ قران، والشيخ علان اخذ علي عاتقه السعي وطرق ابواب المسؤلين ليجيب مشاريع الاعمار، والاستاذ فلتكان يكتب ويزين في جدرانك ويعلم طلبة عيال وكبار ، ليهم هيبة تخلي اللي يشوفهم يخاف ويوقرهم وعمر العيبة ماطلعت منهم، هالة من النور اترسمت حواليهم وخلوا بلدهم مشهورة معروفة بين القري باصالتها وعزتها. مات الجيل مبقيش فيهم ولا واحد، الناس تذكرهم دايما بالخير، ظنت الناس ان الشمعة انطفيت، وان حماس البلد راح بعيد من دروبها وحيطانها، وان الريادة بقيت تتسلسل من بره حدودها.
القري الطاهرة ربك مبيفتهاش، يأمر الأرحام بانجاب مزيد من الرجال أجيال ورا أجيال، بنفس المواصفات قلب طيب وضمير صاحي ونية عمل لوجه الله ، ارواح زي الجيل اللي مات باشكال واسماء جديدة وقلب شباب قادر علي العطاء، وبرضه فيهم الشيخ والاستاذ ووزاد الدكتور والمهندس والاسطي والاجير، وحدوا كلمتهم وعملوا دار سموها جمعية ، بعد تشجير وتعمير وتكحيل لعيون المعمورة يروحوا بالليل هناك يناقشوا امور بكرة، والكراسي هنالك مبتلزقش مش عشان انها تيفال بس عشان الجلابيات اللي عليها منوياش ومقصداش دنيا ، كل همهم اعمار حتة الارض اللي ربنا مستخلفهم فيها ، عين الرجالة هناك علي قبر ضيق حينزلوا فيه واحد ورا التاني، وجابو للجمعية ورق وختم يبعتوا جوابات للحكومة فيها طلبات اعمار للمعمورة ، وفيها شكاوي ضد الفساد ، عاشت طوخ وقتها عهد جديد بعد قيام ثورة يناير 2011 من حوالي 50 سنة.
ومات الجيل ومبقيش فيهم ولا واحد، الناس دلوقتي بتذكرهم بالخير، بيظن الناس ان الشمعة حتنطفي وان حماس البلد خلاص حيخمد والريادة حتسلسل من حدودها، بس ده باذن الله مش حيحصل، لان اللي كاتب الحكاية - الله يرحمه – كان وصفها بانها حكاية متنتهيش، بداية بلا نهاية، فالحكاية مفهاش توتة توتة خلصت الحدوتة، فطول مافي طوخ .. ستحمل الارحام مزيد من الرجال ... اجيال ورا اجيال.
حمدي غالب طايع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شارك برأيك