في ظهيرة يوم شديد الحر، كنا نتناول وجبة الغداء علي مهل، تداعبنا برودة شرائح البطيخ، الكل صامت علي غير العادة، شعور ترقب وانتظار، فقد ذهب اخي في الصباح لمعرفة نتيجته في الثانوية العامة الازهرية، وماهي الا لحظات حتي سمعنا صوته وهو يجري صادحا "طب يابايا طب" ، الغريب ان والدنا – ابقاه الله بصحة وعافية - كان وقتها في سفر ولم يكن موجود، ولكنه كان اعتراف تلقائي من اخي بان صاحب الفضل في نجاحه وتفوقه يعود الي ابيه الذي يضحي ليل نهار في غربته ليري ابناءه من المتفوقين، والاغرب ان لا احد منا قد لاحظ ذلك، فقد جرينا اليه، نحضن بعضا بعض ، في مشهد عاطفي قلما يتكرر في بيت العقل فيه متحكم، وجردتني الفرحة من كسلي ، فذهب الي اقرب بقالة في شارعنا لابتياع حلوي ومياه غازيه حتي نشرب نحن اولا وجموع المباركين التي سوف تاتي بعد قليل، وهناك عند البقالة وجدت عجوز، تملا التجاعيد وجهها ويديها، ذات وشم ازق اعلي رسخها وفي منتصف جبينها وخلخال فضي في احدي قدميها، وتكلمت باحرف متكسرة كلسان الاطفال، واوصتني ان ااخذ دستة الشمع التي ابتاعتها بمالها الخاص الي ضريح الشيخ... وذلك وفاءا بنذرها لهذا الشيخ اذا ما أنجح اخي.
حملت اغراضي ورجعت الي الدار واكلنا وشربنا، وفي العشاء تجمع المباركون والمهنئون، وفجاة انقطع التيار الكهربائي وسادت حالة من الظلمة، ذكرتني بشموع العجوز ونذرها، فخفت من تقصيري في حق الضريح وخشيت من انتقام صاحبه لي لنسيان امره، فتسللت واخذت الشموع وذهبت وفتحت باب الضريح فوجدت في نفسي خوف فدعوت الشيخ ان لايؤذيني، فاني قد اتيت اليه صديقا لا عاديا، فاستجاب لي ونزع الخوف من صدري، وتشجعت ورجوت منه همسا ان يفعل لي كذا وكذا، دعوته ونفسي موقنة بالاجابة.
لم اكن ابلغ الحلم وقتها، وكنت علي قدر كبير من الالتزام الاطفالي بالدين، اصوم نصف يوما في رمضان ، واصلي عصرا ومغربا وعشاء وجمعة في المسجد، وصبح وظهرا في غيابات النسيان، كنت بلاهوية حقيقية، فاني افعل ذلك لاني اري الجميع يفعل ذلك، كنا نذهب الي المسجد لان بعد الصلاة نجتمع ونتحدث ونلهو داخل المسجد وخارجه، ولكن كنا نخشي ان نلعب بجوار ضريح او في اثناء مرور احد اساتذتنا، فكلاهما ارتبط بالنجاح والدراسة.
ومرت السنون وكبرنا، وقرانا واستمعنا، وعرفنا بان المسلمون ليس صفا واحد كالبنيان المرصوص، فهناك سنة وشيعة، والشيعة ينقسمون الي احزاب وفرق، والسنة الي طرق ومذاهب، شطحات هنا وشطحات هناك، واختلاف العلماء رحمة ولكن نزاعهم وصراخهم وتفرقهم لعنة، اتفق الجميع علي الشكل الخارجي للمسلم، لحي طويله وجلباب ابيض، يلعنون الدنيا ونعيمها في خطبهم ويجرون علي كراسي الحكم وايدي الملوك والاكابر، وصل الخلاف فيما بينهم الي حد النعت بالكفر، فريق يدعو الي هدم الاضرحة واخرون يشدون اليها الرحال ويقدمون لها القرابين، واخرون يلتزمون الصمت ولا يعلقون. وصلت الفرقة منتهاها ، فلا اعد افرق بين فاسقهم ومؤمنهم، فاغلقت عيناي وادرت لهم ظهري، واسلمت وجهي الي الله فهو يهدين.
حمدي غالب طايع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شارك برأيك