الجمعة، مارس 31، 2017

الحاج غالب...أبٌ مكافح وجدٌ حنون






ونيلاً استيقظ فلم يجد ضفافاً
  فغرقت أمواجه في بحور الرمال
وسرب الطيور من جفاف مهاجرا 
غاب قائده، فتاه في طريق الضلال
والاغصان تتمايل مع الريح فرحا
 تكسر جزعها، فلا ثمر لها ولا ظلال

يعيبون على الرجال البكاء
ألا تعرفون فبدونه ما كان هناك رجال
فمن صلبه خلقنا
ومن ماله شبعنا
من حنانه اغتنينا
ومن عزمه تعلمنا
وبكفاحه تشرفنا
وبحكمته اهتدينا

وبسيرته اقتدينا


أبتاه 
والدي العزيز، طيب الله ثراك، 
دعواتنا دوما للقدير بان يرحمك ويتولاك 
الحزن يعتصرنا من أكبر اولادك لأصغر احفادك 
تدابير الحياة لم تعد سلسة كما كنا ندبرها "وياك" 
العيال يفتقدون للجود والسخاء كما عاهدوه من اياك 
وان تزاحمت الكلمات فابسطها "لقد افتقدناك




الموت مصيبة، وموت الأب أعظمها، فلا الأيام تخفف من حدتها ولا الحياة قد تلهيك، تبدأ بكلمات مواساة "هذه سنة الحياة" و"الراجل أدى رسالته" و"البركة فيكم" و"الحمدلله ساب وراه رجاله"، ثم تكتشف رويداً رويداً حجم المأساة والفراغ الذي سببه رحيل الأب. فأنا على سبيل المثال كنت أعتمد اعتمادا كليا على "أبويا" في كل شيء سواء كنت طفلاً أرتع في النعيم، أو شاباً آكل من "قتة محلولة"، أو رجلاً راشداً قارب على سن الأربعين "مشيلش غير هم نفسي في الغربة". 


هذا ليس هو الوداع الأول بكل تأكيد، ولكنه حتما هو الوداع الأخير، فلطالما ودعنا والدنا الحاج غالب في كل مرة عندما كان يسافر للخارج، وودعنا هو عندما أصبحنا نحن المسافرون، وبعد كل وداع كنا نصبر أنفسنا بلقاء قريب، ونمني النفس بلم الشمل الجميل، وهكذا أيضا هذه المرة نصبر أنفسنا بأن نلحق بوالدنا في عباد الله الصالحين في جنات النعيم، بعد أن نؤدي رسالتنا في الحياة، كما فعل هو، فأنا وجميع اخوتي نشهد بأن والدنا الحاج غالب قد أدى رسالته على أكمل وجه.


فضلت التريث ولم ابادر بالكتابة وانا تحت تأثير الصدمة، خشيت ألا توافيه كلماتي حقه، أو أن يظهر عليها طابع الفخر والمبالغة، فالجميل في قصة حياة أبي أن ظروف حياته كانت عادية مثل بقية افراد جيله، من ظروف اقتصادية صعبة، حظ من التعليم قليل، الا انه نجح أن يشكل فرقا ويصنع الاختلاف، فهو لم يرث غير بعض "الكلام والورق" عن 95 فدان تكليف جده عبد الوهاب، وبعض القصص الكوميدية كيف أضاع جده المباشر نصيبه من هذا الإرث، وكحال الجميع وقتها فقد اجبرته الظروف على هجر التعليم بعد أن تعلم القراءة والكتابة في المدرسة الابتدائية. جاب في البلاد شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا، استوطن الغربة، وضحي بأحلى أيام حياته من اجل أن يمهد الطريق ويعبدها أمام أولاده، حكايات غربته شرفت بكتابتها على صفحات طوخ المعمورة مرات عديدة.



http://toukhqena.blogspot.com/2010/05/blog-post_2405.html


يقولون بأن الرجل يكتسب شرفاً ان استطاع أن يصنع نفسه، ويزداد شرفا على شرف إن استطاع أن يصنع أولاده، فزادك الله احسانا على احسانك يا حاج غالب فقد صنعت نفسك وصنعت اولادك –بتوفيق وكرم من الله، بوركت يا أبي حيا وميتا. 


أحببت ولدي لأنك أنت يا أبي أحببته، بل إني أحببت نفسي لأنها من صلبك، كان قمة طموحي في الحياة أن انال منك نظرة إعجاب أو أري على وجهك ابتسامة، أشد عقاباً كان لي أن أرى تكشيرة غضب على جبهتك السمحة، أما الآن بعد أن رحلت لا أعرف كيف سأقيم أفعالي، فالحياة قد فقدت بريقها ومنطقها، وبقت "ماسخة ملهاش طعم".


وبعد كل وداع كنت كحال الأطفال أعود من المطار والدموع متحجرة في العيون، اتربص بالطائرات عندما تمر في سماء قريتنا، اجري وراءها في الدروب والغيطان هاتفا "سلميلي يا طيارة على ابويا". أما هذا الوداع فمختلف، فهذه المرة رفض الطفل الذي بداخلي أن يعود معي بعد توديع أبي، وقرر أن يبقي هناك عند هذا القبر الذي يرقد فيه أبيه، ورجعت أنا من هناك انسان "مسخ" بوجه كالح، وكأنه ليس أبي فقط الذي مات وانما أنا أيضاً.



هذه ليست مقالة رثاء لابي فقط وانما لكل افراد جيله من اباءكم واخوانكم الذي فضلوا واختاروا طوعا ان يكونوا الشمع الذي يحترق لينير الطريق لنا. هذه أيضا ليست مقالة رثاء لاباءنا والجيل السابق فقط ، وانما لنا نحن، ولكل مكافح من اجل لقمة الحلال الطيبة في بلاد الغربة.

ظننت أن قلبي تحجر 
ونياطه صار خيط عنكبوت
فمالي أشتاق لأسمع صوتا
لن يخرج صداه من كفن وتابوت

حمدي غالب


تنويه هام: على كل من يرغب في نشر مقالات على طوخ المعمورة يرجي ارسالها في رسالة إلى صفحتنا الفيسبوك وسيتم نشرها على الفور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شارك برأيك