تنساب الأيام من بين أيدينا كغزال يتملص من
براثن وحش مفترس، وتمضي الشهور والسنون كغمضة عين، معترك الحياة قد يجعل الانسان ينسى
أن الله خلقه ليعمر الأرض، فترى البشر يوسوسون لبعضهم البعض وكذلك الشياطين تفعل،
وهكذا الحال حتى يقل الايمان شيئاً فشيئا ويكاد الفساد يخنق ما تبقى من النفوس
الطيبة حتى يبعث الله نفحات، "أيام مفترجة" يعاد فيها
"شحن" بطاريات الايمان، ويتم "تغيير زيت وفلتر" للضمائر،
وتهذب فيها الاخلاق ويعاد توجيه نمط الحياة إلى المسار الطبيعي. في هذه الايام
المفترجة تستعيد الأنفس الطيبة الكثير من قوتها، وتعلوا كلمة الحق والعدل
والمساواة، ويستعيد البشر ذاكرة فعل الخيرات والتصدق على الفقراء وصلة الرحم.
نفحات الأيام المباركة والمفترجة تطرد قوى الشر والارواح الشريرة خارج أسوار القرى
والمدن.
صورة أرشيفية |
مع غروب شمس اليوم الاخير في شعبان تستشرف
النفوس روائح ونفحات شهر رمضان، فتجد الصبية يعلقون الزينة في الشوارع، وتنشغل
النساء بالتجهيز والاعداد لموائد الافطار والسحور والتمر والعصير، وينشرح صدر
الشباب بأن رمضان المعظم سوف يكون شهر خير عليهم، وتجد شيوخ القوم فرحون بأن الله
قد مد في أعمارهم وبلغهم رمضان.
"رمضان كريم يا حاج شديد" قالتها الزوجة ذات الـ 57 عام لزوجها
الذي بلغ السبعون عام أو يزيد ولم يتبق له من الشدة غير اسمه فقط، قالتها بنفس
الطريقة التي اعتادت أن تقولها له على مر أربع عقود تقريبا هي عمر زواجهم، قالتها
وهي على يقين أن تستمع إلى نفس الاجابة الفاترة، فزوجها ليس من نوعية المسلمين
الذين يستقبلون رمضان بلهفة، وان كان يصوم فصومه من باب اسقاط الفريضة لا غير،
يصوم عن الاكل والشرب فقط حتى لا يقال عليه أنه افطر لضعف اصابه، يستهل افطاره
بسيجارة ولعنات جمة يصبها على أهل الدار لتأخيرهم تقديم الافطار لبعد اداء فريضة
المغرب. كان يري بأن رمضان وأمثاله من الايام المفترجة ما هي إلا أدوات لدى البعض
يستخدمونها لابتزازه ماديا، فنفقات البيت في رمضان تزيد إلى الضعف، كما يجدها
الفقراء والمتوسلون حجة لابتزازه باسم الصدقة وكرم رمضان.
ولكن الحاج شديد خيب ظن زوجته ورد عليها بكل
فرح وسرور "الله أكرم والحمدلله ربنا خلانا نعيش لغاية رمضان، يمكن ربنا رايد
خير وأواخرنا حتيجي كويسة"
الحاج شديد من الناس الميسورين الحال ونال من أبيه ميراث كبير، جد واجتهد وسلك كل السبل واستخدم كل الحيل والأساليب لتنمية هذا
الميراث بغض النظر عن مشروعية هذه الاساليب من عدمها، لم يكن يبالي كثيرا بقضية
الحلال والحرام، لم يتعمد فعل الحرام ولكن أيضا لم يخشاه، فالقصص كثيرة عن مشروعيه
ميراثه وكيف يكون له نصيب الاسد في ميراث أبيه، وإن كثرت الحكايات إلا أن المقربون
من هذه الرجل يشهدون له بالجهد والاجتهاد وبأنه دائم السعي ودائم الاعتماد على
نفسه، كان رجل أعمال بمعني الكلمة وناجح كثيراً.
نزل الحاج شديد درجات السلم بسرعة أكبر من
المعتاد ولم يحتاج إلى أحد ليعاونه في ذلك، بل تمالك قواه واستند بيده على الحائط
حتى وصل إلى غرفة الضيوف لاستقبال المهنئين والمباركين. وكان أولهم كالمعتاد الحاج
"حقاني". الحاج حقاني من أقدم اصدقاء الحاج شديد وأخلصهم، وكان
هو شاهد على كافة عقود البيع والشراء التي كان يبرمها الحاج شديد، وكذلك على صكوك
الملكية وحجج الاراضي التي اخذها الحاج شديد من أبيه "بيع وشراء"، وان
كانت تدور على الحاج "حقاني" بعض الإشاعات بأنه لم يأخذ من اسمه نصيباً.
الحاج حقاني: كل سنة وانت طيب يا حاج شديد وربنا يعود
علينا وعليكم الايام بخير
الحاج شديد: وانت طيب يا حقاني، تشرب ايه
الحاج حقاني: لا مفيش داعي، عشان كربان شوية
الحاج شديد: مش عوايدك يعني، خير فيه شئ
الحاج حقاني: والله يا حاج المشروع الجديد عامل دوشة في
البلد كلها، ولغاية دلوقتي محدش عارفه حيعدي من اي داهية
الحاج شديد: ربنا يكتب اللي فيه الخير
الحاج حقاني: باه ده انا كنت خايفك لتسمع بالمشروع وتزعل
الحاج شديد: وايه اللي يزعلني
الحاج حقاني: عشان بيقولوا انه حيعدي في ارضك البحرية،
" ثم نظر إلى الحاج شديد ليري ردة فعله"
الحاج شديد: اللي عايزه ربنا هو اللي حيكون
ظل الحاج شديد مبتهجا وهو يستقبل المهنئين
والمباركين من جيرانه وشباب عائلته، وعند وقت السحور، نادى على زوجته وأمرها بأن
تنادي "الولد وعيالهم يتسحروا معاه"، استغربت الزوجة كثيرا فهي المرة
الأولى التي يطلب فيها زوجها ان يتسحر مع أولاده وأحفاده، ولكن يا حسرتاه، فلا أحد
فيهم موجود. فالابن الكبير خارج الدار يتسحر اول يوم كعادته مع أصحابه، أم الابن الأصغر
فقد تعرض طفله للكسور من جراء سقوطه من على ظهر الحمار وهو يرقد في المستشفى منذ
يومين والحاج شديد لا يعرف بذلك.
تسحر الحاج شديد هو وزوجته ثم غادر ليصلي
الفجر جماعة، وبعد الانتهاء من الصلاة تحامل على نفسه ومشى ناحية أرضه التي سوف
يمر المشروع من خلالها.
ومع نسائم الصباح، وندى الزروع، تساقطت عبرات
من عيون الحاج شديد، وتذكر كيف استولي على هذه الأرض عنوة من اخوته، كيف كذب ودلس،
وكيف استشهد شهداء الزور ليحصل على هذه الأرض، والان وبكل بساطة يتم انتزاع
ملكيتها منه، فلم يجني غير تحميل نفسه بذنوب ومعاصي، كيف يكفر عن ذنبه، كيف يعوض
اخته وأخيه عما سرقه منهم طيلة السنوات الماضية.
غادر
الحاج شديد حقله متوجها إلى بيت أخته، التي استقبلته بريبة واستغراب، كيف لا وهو
لم يزرها مطلقا من سنوات عديدة،
الحاج شديد: كل سنة وانت طيبة يا نوال
نوال: وانت طيب يا خويا، بس ايه الشقة الغريبة دي
الحاج شديد: جاي ارجع الحق لأصحابه يا نوال، جاي أرجع ليكي
ارضك ونصيبك انت واخوك اللي سرقته منكم، الدنيا كانت ضحكانة علي يا خيتي، بس
الحمدلله ربنا فوقني، يمكن عملت حاجة كويسة في حياتي.
نوال: بعد ايه ، بعد ما شربت الغلب انا وعويلاتي
بعد ما جوزي مات، بعد ما استلفت من طوب الأرض عشان ولدي يطلع عدم ممانعة الكويت،
بعد ما قعدت انا ووليدي نبني البيت طوبة طوبة لما البيت القديم اتهد على راسنا،
انت كنت معبرنا أصلا، ولما جه عريس للبنت قولت يجيلك يتقدملك تشرفنا قدام الناس
وتكبر بينا ، رجع العريس يقولي اخوكي مش راضي يقابلني، اسامحك كيف يا واد ابوي
وامي وانت كلت حقنا وتبريت منينا، وجاي ترجع نصيبنا بعد ما عرفت ان الحكومة حتاخده
منك، ناصح قوي يا "شديد" عايز تلف وتدور على اللي خلقك زي ما ضحكت علينا،
لا ربنا كبير وعليم وعارف ان قلبك اسود ونيتك اسود منه، ومش حيسامحك
الحاج شديد: حقك عليا يا بت ابوي، ليكي حق في كل اللي
بتقوليه ده، ايوة انا كنت شيطان وشيطان كبير كمان، بس مش عارف ليه من اول ما قالوا
رمضان بكرة وانا اتغيرت، ولما صليت الفجر وروحت عديت علي الغيط لقيت نفسي باباكي،
جيت على بابك على طول، وبحق الأيام المفترجة دي يا شيخة ما ترديني، وبحق رمضان
وصيامك لتسامحني، ورحمة ابوكي وامك شوف اللي يرضيكي وانا حاعمله، واوعي تقولي ان
جيت عشان الحكومة جتاخد ارضي، لا، انا معايا فلوس كتيرة قوي، ومعايا ارض كتيرة
قوي، اوعى تكوني فاكرة الكام فدان دول هم اللي حيلتي وسبيلي، فشوفي يا بت والدي
انت وعيالك اخونا المرحوم يرضيكم ايه، ايه رايك، حاحاسبكم على سعر الأرض بسعر
النهاردة وحاديكم نصيبكم نقدي فوري، واللي تاخده الحكومة حيبقي من نصيبي انا،
المهم تسامحوني يابت والدي.
نوال: شكلك بتتكلم جد يا "شديد"، انا
الحمدلله بقيت مستورة ومش عايزة حاجة، ولدي اللي يديله العافية ربنا فتح عليه في
الكويت وشغال ومكفيني، بس انت حلفتني بالايام المفترجة وبرمضان انا مردكش، وانا
موافقة يا شديد ترجع حقوقنا انا وعيالك اخوك المرحوم عشان تخلص زمتك قدام ربنا.
في المساء جمع الحاج شديد افراد العائلة
جميعا، وأقر امامهم بأنه كان مستولي زورا وبهتانا على نصيب اخته واخوه، وأنه قرر
تعويضهم بالسعر الحالي للأرض، اجتمع شباب العائلة يحسبون الحسبة، واتفقوا على ان
التعويض العادل يكون بمبلغ 1 مليون و300 ألف للأخت و2 مليون و600 ألف للأخ.
أمر الحاج شديد ولده الصغير يذهب البنك الان
ويحضر الأموال، ولكن الابن نظر لابيه نظرة عدم رضا، وكأنه يلومه على فعلته الحالية
وعلى تبديده للاموال بهذا الشكل، ولكن خشى أن يرفض الامتثال للأوامر فيعنفه والده
امام افراد العائلة أجمعين.
خرج الولد من البيت قاصدا البنك، وفي الطريق
وجد الحاج حقاني، الذي بادره بالسؤال
الحاج حقاني: اومال رايح فين يا وليد بالعربية كدة، وطالع
مغبر من البيت، وليه اللموم اللي عندكم ده كله
وليد: ابدا يا حاج حقاني، موضوع كدة وخلص، وانا
رايح نقادة دلوقتي،
الحاج حقاني: طيب خدني معاك في الطريق، ونكملوا كلامنا في
العربية
بس مقلتليش يعني ليه وشك قالب كدة؟
وليد: والله يا حاج انت مش غريب، معايا ولدي في المستشفى
ليه يومين من وقعة الحمار، وقاعد في غيبوبة، ومش قايلين لحد خالص ، حتى الحاج
ميعرفش عشان ميقلقش
الحاج حقاني: الف سلامة عليه، بس بردوا شكلك مضايق من
حاجة تانية
وليد: وانا مش طايق نفسي من اللي حاصل للواد، وابويا
من الصبح وعمال يتصل علي الموبايل، تعالي دلوقتي، عايزك ضروري، عشان موضوع مستعجل
الحاج حقاني: اه موضوع ايه اللي كربان عليه كدة
وليد: قال يا سيدي ضميره صحي دلوقتي، وكان في غلط
في الحساب مع اخواته وعايز يرجعه، والمرار عايز يرجعه بسعر النهاردة، يعني 4 مليون
جنيه لما حسبناها، ومشيعني دلوقتي اجيبهم من البنك وادهملهم
الحاج حقاني: هو مال ابوك كدة، شكل الصيام أثر على مخه،
يا ولدي انا كنت قاعد في التقسيمة، وانا اللي قسمتلهم القسمة، وقسمتها بالعدل،
ايوة انا اديت ابوك زيادة في الأرض عشان هو اللي كان شايل الشيلة من الأول، زيك
كدة يعني، يعني انا لو حاقسم بينك وبين اخواتك يا وليد حاديك انت اللي اكتر، عشان
انت اللي مهروك الهركة كلها، ياولدي ابوك كبر وشخرف، وحيضيعكم، روح يا ولدي خد
الفلوس وقسموها انت وخواتك احسن ما ابوك يديها لعيال عمك ويضيعكم.
نزل الحاج شديد من السيارة ولكنه لم يترك
مقعده فاضي، فقد ترك عليه شيطان يردد كلماته طيلة الطريق ذهابا وإيابا على مسامع
وقلب وليد، واخذ وليد والشيطان يكتبون السيناريو لنص الفتنة الذي كتبه الحاج
حقاني، ولكنه وهو على هذا الحال جائه اتصال من المستشفى بأن حالة ابنه قد أصبحت حرجة
ولابد من نقله إلى أسيوط، فتوجه على المستشفى على طول مصطحبا معه الفلوس، وهناك تفاجئ
بأن جميع افراد العائلة والحاج شديد متواجدين في المستشفى.
الحاج شديد: عوقت يعني يا ولدي
وليد: ابدا البنك كان زحمه، وكمان انا ورايح وصلت
الحاج حقاني لمشوار
الحاج شديد: حقاني، قطعة فيه وفي اسمه، ده مفروض كان
سموه ضلالي، يا ولدي متسمعش كلامه الراجل الفتنة ده، حيضيعك زي ما ضيعني، اخز
الشيطان يا ولدي وهات الفلوس، نرجع الحق لاصحابه، وقادر ربك بحق الأيام المفترجة
دي يشفي ولدك على خير.
رجع وليد الفلوس لوالده الذي قسمها بين أخته
وعيال أخيه،
ثم جاءهم الخبر الجميل بأن الولد فاق من
الغيبوبة ولا حاجة للذهاب به إلى أسيوط، وكذلك جاء خبر سعيد آخر بأن المشروع
الجديد لن يمر في أراضيهم ولكن الحاج شديد قال "إنني أحببت هذه المشروع
الجديد حقاً فقد جعلني أصحو من غفلتي وجعل ضميري يستيقظ من سباته، وان لم يمر في
أرضى فقد أثبت لي أن الأرض كلها زائلة وتبقي الاعمال الصالحة فقط لا غير"،
وعقب آذان مغرب هذا اليوم تجمعت العائلة جميعا في "مندرة" الحاج شديد
يفطرون المغرب في حب وتسامح وبركة الأيام المفترجة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شارك برأيك