لم يكن ياتي إلينا ضيفاً الا وقد رمي علي مسامعنا كلمات التعنيف والشكوي والسباب، والغريب اننا كنا نستمع لاهانات ضيوفنا بصدر متسع وابتسامات تتطور تدريجا الي مرحلة الضحكات مما يصيب الضيف بهستريا من الغضب يعقبها استسلام للواقع وينهيها بمشاركتنا للضحكات،
فما كان يأتي إلينا احدهم الا وقد ظل قرابة الساعة ينتظر امام باب الشقة حتي يفتح له، وفي اثناء انتظاره لم يدخر جهدا في النداء والصياح حتي يبح صوته، وقرع الجرس حتي يمل من رنينه، ثم الطرق تصاعديا علي الباب الذي تعرض لمحاولات كسر عديدة من ضيوف سابقين، والقدر وحده الذي كان قد ينجي بعض ضيوفنا من الانصراف بعد ان بذلوا الجهد الكثير في الصعود الي الطابق الخامس اي مايقارب الخمس وسبعون سلمة، ثم الصراع مع باب خشبي لايسمع ولاينطق واصدقاء كأهل الكف لا يرموا بالا لما يدار خارج كهفهم.
كنت وبقية افراد الشقة الست - جميعنا من طلبة الجامعة المغتربين –نترك غرف الشقة خاوية ونتجمع في البلكونة، لا تستغرب ياسيدي، فقد كانت البلكونة بمثابة الديوانية او ستار بكس الخاص بالشقة، تتوسطها منضدة صغيرة لاتخلوا من احدي مسرحيات شكسبير او قصة من قصص المرحوم ديكينز او المعلم بيرنارد شو التي كانت لاتظل مفتوحة اكثر من خمسة عشر دقيقة ثم تستبدل باوراق الدومينوز ويرفع صوت الكاسيت ليشدو بصوت عمرودياب او محمد منير او كاظم السهران مثلنا، ونتقاسم اكواب الشاي ونتسول من بعضنا البعض لفافات التبغ، ولكن لم يكن شيئا يلهينا عن تصويب النظرات الي الطابق الرابع في المبني المقابل، فالمبني كان اسكان طلابي للصبايا ادواره كلها يسكنها حدادي الصعيد الا الطابق الرابع فكانت تفوح منه رائحة هواء بحري العليل وموج الابيض المتوسط الجميل.
فما يكاد ضيفنا ينتهي من سبابه ولعناته ويصب في جوفه ثلاث لترات من الماء البارد حتي يشاركنا في لمتنا ولهونا، وكان الكثير منهم يابي الرحيل ويظل مستيقظا لصبيحة اليوم التالي، وكنا نشدد عليهم جميعا بعدم استخدام اساليب المعاكسة اللفظية التقليدية وان يتبع اسلوب الصمت مستخدما لغة الاشارة حتي لايثير سخط عساكر الحراسة ومقر خدمتهم بالمبني المجاور الذي يسكنه - كما قيل والله اعلم - العديد من الظباط المهمين والمتنفذين من اصحاب الشنة والرنة.
في الحقيقة وحتي الان لا اعلم هل كان هذا المبني موجود فعلا ام كان وهما في خيالنا كالسراب الذي تتراقص موجاته في اعين الظمان، شيئا اخترعناه هربا من انكسارات ماضي لم تكن ترضينا ومن ثنايا واقع مرير لايرضينا وتخيلات لمستقبل حالك السواد نعلم علم اليقين انه لن يرضينا. وهل كنا علي صواب باستبدال كتب المذاكرة باوراق الدومينوز؟ فلم نستفد مطلقا قط من ماكبيث ولا الغراب زوجته ولا الطفل الوضيع اوليفر تويست ولا السنكوحة اليزا بل كانت شجاعة لاعب الدومينوز وحس المقامرة به الذي نحيا به كراما في عالم الجوهار يك.
عالم الجوهار يك ليس من نسج الخيال بل كابوس فرضه الواقع المرير علي الشباب المصري، فيه تري اصحاب المؤهلات العليا يمشون مكبي وجوهم في الارض من الاحباط والياس، يتركون شهاداتهم الجامعية معلقة علي جدران منازلهم ويستقلون قارب متهالك للهجرة الي ارض الاحلام، يغرق فيهم من يغرق ومن ينجو يبدا مشاور الذل والمعاناة. في عالم الجوهار يك تجد الشباب الجامعي المصري يعملون كعمال اجريين في بلاد الخليج تحت وطأة نظام الرق والنخاسة المسمي بنظام الكفيل، ومن يرفض ذل الغربة يعود الي وطنة ليعمل بنظام العقد المؤقت براتب بالكاد يكفي اجرة مواصلاته. في عالم الجوهار يك تجد ان معيار الكفاءة اختفي ليحل محله معيار المحسوبية والفهلوة تعيس فيه من يتمسك بضميره واخلاقه واحلامه.
أ. حمدي غالب طايع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شارك برأيك