الأيام الحلوة بتعدي في ثواني، لم تأبه الأيام بتوسلاتي وأغمضت عينها حتى لا تري العبرات وهي تسيل من العيون، كم كنت أيتها الساعة سريعة وكأن لك عليا ثأر، وها قد انتهت الأجازة وما صاحبها من حالة فرح واستئناس، وبدأت سكاكين الرحيل تلكم كبدي، ولوعة الفراق تدمي قلبي، وفظاعة مشهد أسنان الغربة يرعبني، فارتميت في حضن امي لعلها تحميني، فلم اجني غير مزيد من لسعات الدموع، وأهات قلبها المنفطر، فلم اقوي علي الوقوف والتفت الساق بالساق وأنا اخرج من باب الدار.
ففي هذا الموقف المهيب فان خيرت المرء بين عدم الرحيل وأي شئ آخر لاختار البقاء، ولكن هذا لم يحدث، فقد همس في أذناي صوت أجش قائلا "العرض ما زال قائما ابقي ولا ترحل وسأوفر لك فرصة عمل بالعقد في احدي المدارس القريبة"، فمسحت دموع وجهي وكتمت صرخات قلبي وجمعت ما بقي من قوتي وصرخت في وجهة قائلا "مهما حصل مش حاشتغل ب300 جنية"، لا اعرف لماذا صرخت في وجهة علي الرغم بأنه يسعي لي في الخير، ولكنها أوقات عصيبة حقا.
هربت من أيدي المودعين تتبعني عيونهم الدامعة وتدعو لي قلوبهم الموجوعة وركبت السيارة لتقلني الي المطار، ومن نافذة السيارة تعلقت عيني بشوارع المعمورة وكأنها قطعة من الجنة، فهذا غموض قريتنا من يعيش داخل المعمورة من الطيور الداجنة لا يعرف قيمتها ويبخس حقها، فهي بالنسبة اليهم مجرد "ارض" “Land”، اما من يعيش في خارج المعمورة من الطيور المهاجرة فهي بالنسبة اليه ارض الوطن “Homeland”، فهم يرون المعمورة بالبلد الساكن الممل ومجريات أمورها كالماء الراكد لا جديد وشعلة نشاط شبابها كوميض الشهب والنيازك لا يدوم طويلا، اما نحن الطيور المهاجرة فان المعمورة بالنسبة لنا احلي بقاع الدنيا ولمن يعترض سأقول له اسال أي طير مهاجر وقل له اين تختار ان تقضي أجازتك السنوية في المعمورة او في جزر المالديف؟
وصلت الي مطار الأقصر الدولي وبعد ان أنهيت جميع الإجراءات الخاصة بالحقائب وختم الخروج، ذهبت الي صالة الانتظار، وهناك سرحت في الأيام السابقة تارة وفي الايام القادمة تارة اخري، ما زال طعم السابقة الحلو في مخيلتي وقلبي يتحسس مرارة القادمة وقسوتها، وأبت الدموع ان تهطل لتريحيني وتحجرت داخل العيون، فحياة المهاجر هكذا الم ولوعة بلا دموع، وصببت جم غضبي علي أولي الامر الذين حكموا علينا بالبطالة في اوطاننا وأجبرونا علي ان نعيش حياة البدو، حياة كلها ترحال ، وفجأة لاحظت ان الزملاء بجواري يتضاحكون وعندما سالت عن السبب قالوا لا تشغل بالك بهذا الموضوع يا عريس.
وصلت الي وطني الثاني، ارض الديرة الجميلة، ارض الرخاء والعز والجاه، لا ينكر فضلها بعد الله علي بلدنا الا جاحد، ولا يسبها الا حاقد، ولا يأتيها الا عاشق، فهي الحسناء درة الخليج، تمتص شباب الرجال، فلا يتركوها الا شيوخا أعجاز يمشون علي أربع واحيانا يحملون حملا، وصلت وعلي غير العادة بدون امال او أحلام في جعبتي، ولعلها المرة الأولي التي اشعر انني اتيت حتي بدون قلب، ولن استجدي العطف ولن اكتب عن حالتي في الأيام الأولي، فقد تنحيت كرها لا طوعا عن لقبي كأمير ورجعت اعيش كعين وقحة تحي حياة العزوبية المهينة، وبعد أن رد الي عقلي وبعض من صبري وحلمي، ودارت في ذهني بعض المقارنات والحسابات كان نهايتها ان حياتي هنا في غربة المكان حيث اعيش بعيدا عن الاهل مشتاقا لهم ومشتاقين لي، أفضل مليون مرة من حياتي في اغتراب نفسي اعيش وسط الاهل ولكن غريبا. لاني بصراحة لا استطيع ان احيا حياة كريمة ب300 جنيه.
أ. حمدي غالب طايع
الكويت في 08.01.2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شارك برأيك