الثلاثاء، ديسمبر 11، 2012

ثرثرة في قاع النهر

ثرثرة في قاع النهر

مشهور بحسن سيره وسلوكه، معروف بتقواه وخشوعه، محبوب من أهل البلدة جميعا، رزين وحكيم يحفظ كتاب الله ويطبق سنن نبيه، يحتكم إليه النصراني قبل المسلم، نصير المظلومين وعدو الظالمين، انه الشيخ فجر الإسلام، كان الشيخ إسلام وهو في ريعان شبابه لا يبخل بجهد ولا بوقت في القيام بالشؤون العامة لقريته، تراه كالعامل الأجير، تارة هنا وتارة هناك، تطوعا لوجه الله، ومرت سنون ولم يعد بهذا الشباب والقوة، واقتصر دوره علي تقديم النصح والإرشاد.

أمطرت سماء الحبشة بماء منهمر، فجاء فيضان النيل إلي مصر مبكراً هائجا يضرب يمينا ويسارا، وتمددت ضفافه شرقا وغرباً، ولم تكن للقرى سدودا قوية تحمي ضفافها، فقد كان يحكم كل قرية مملكوك لا يأبه إلي بنفسه، يجبي من الناس أموال تتكدس في خزائنه، فهرب مماليك القرى بخزائنهم وتركوا الأهالي من خلفهم غرقي، وصلت أخبار القرى المنكوبة إلي مسامع أهل بلدة الشيخ إسلام، فتجمعوا وساروا نحو ديوان المملوك ، ولما وجدوه متراخي وغير مهتم ولديه نية مبيتة للهرب لينجو بأمواله وبنيه، ثار الشباب عليه فقيدوه وحبسوه هو وأهله.

وعلي الرغم من تلك الأوقات العصيبة التي تمر بها القرية إلا أن كرسي الحكم مازال يحتفظ ببريقه، وكل عائلة ادعت إنها الأحق بشرف الحكم، وبدأ الرجال يمشون بخيلاء وغرور كاشفين عن عضلاتهم يتفاخرون فيما بينهم ببطولات وهمية حدثت علي حد زعمهم في الماضي القريب، فصاحب البندقية يقول إنني أنا الذي حميت الشباب ضد المملوك، وهذا الرجل الأفندي يقول إنني أنا الذي نقلت المعرفة والثقافة إليكم وكنت ملهم الشباب ضد التخلف والظلم، وأولاد الشيخ إسلام يقولون نحن الأولي بالملك، فانظروا إلي أبينا العجوز وقد عرف منذ شبابه بحبه وتفانيه لبلده.

وفي خضم التكالب علي السلطة مالت الكفة قليلا مع أولاد الشيخ إسلام خاصة وأن غريمه النهائي كان من أتباع المملوك المحبوس، وان كانت عليهم بعض الملاحظات لكبر عائلتهم وتشعبها في عدة قري مجاورة وبأن ولائهم لن يكون مقصورا علي هذه القرية، وعليهم بعض الشكوك بأنهم يستغلون السمعة الحسنة لأبيهم للوصول إلي مآربهم وهم بعيدين كل البعد عن تلك الأخلاق.

ووقف ثالث أولاد الشيخ إسلام سناً يخطب بين الناس: الوقت قصير والخطر داهم، والطوفان آت آت، ونحن جميعا في مركب واحدة، إما ننجو سويا أو نغرق، فدعونا ننسي خلافات الماضي، ونتوحد لإيجاد مخرج من أزمتنا الراهنة، وإني اقترح أن نبدأ بنقل النساء والأطفال إلي الرابية، وان نعود لنقطع أشجار النخيل لنحيل جذوعها سدودا، ونحفر مجري يصل بين النيل والأرض المنخفضة غربا....واسترسل في الكلام ليجعل فكرته أوضح، وبين الفينة والأخرى كان هناك ما يقاطعه، وبعضهم وسوس في صدر النجار النصراني بأن لا يساعدهم في قطع الأشجار حني لا يبنون تلك السدود، فأولاد فجر الإسلام سوف يستغلون فترة الطوفان ليستولوا علي ديار النصارى وحاجياتهم، ويقطعون أذانهم ويجلدوهم في الذهاب والإياب.

وانقسمت القرية علي نفسها، وارتفعت حدة الألسن وتبادلت الاتهامات وتشابكت الأيادي، فسقط عشرات الشباب قتلي وجرحي، حني أن احدهم لم يكن يتبع أي فريق، فطعنه هذا من الأمام وكتب علي صدره عبد المملوك، وطعنه ذاك من الخلف وكتب علي ظهره متخلف وتاجر دين، وجاءت أمه تبكي وتولول وتصرخ علي كلا الفريقين ألا تعرفون ولدي من هو، هو الحاضر عندما كنتم انتم غائبون، هو من ثار علي المملوك فحبسه وأهله، هو ابن بطني وابن بطني من أراد ومن ثار و من أقال و من اقر و من نهي، ولكن لم يصغي لها أحدا، وكأن الجميع قد شرب من نهر الجنون، وظل علي حالهم يتعاركون حني جاء الطوفان لا يفرق بين فاسدهم وصالحهم، وجرف الجميع أمامه كجثث الماشية العفنة، لا عاصم اليوم لهم من أمر الله، وظلت ألسنتهم في قاع النهر تتعارك وتثرثر.


أ. حمدي غالب  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شارك برأيك