يظل الهاجس الأكبر لدى الأبوين، هو جعل أطفالهم ينصاعون لأوامرهم ونواهيم بكل حزم. هناك أساليب عدة للسيطرة على مشاعر الأطفال، ولكن أكثرها بشاعة – في رأيي – هو زراعة الخوف في نفوسنا كأطفال, ذاك الخوف الذي يظل لصيقا لأرواحنا ويكبر معنا.
كانت الحكايات عن العفاريت وما يعرف بلهجتنا في الصعيد بـ “الصن” أو “الصل”.. وقد يتطور ليصبح “ماردا” في أقصى حالات الجبروت والرعب.
هناك في القرى البعيدة، كانت كل الدور مفتوحة الأبواب.. كنا نخرج نحن الصغار في مجموعات سنية متقاربة، نلعب على أرض الأزقة والدروب الرطبة حتى ساعة القيلولة. ولإجبارنا على العودة للبيوت ساعة القيظ تم اختراع “صن القيلة” أو عفريت ساعة القيلولة.. ذاك الكائن الخرافي الناهض من دم القتلى يطلب الثأر.
لم تكن العفاريت وحدها هي مصدر الإلهام الأكبر للرعب.. كانت هناك الكلاب أيضا.
لازلت اخاف الكلاب, لا أذكر أني تجرأت مرة على الاقتراب من كلب مهما كان شكله. حتى الآن تأتي كلاب “عيون” المسعورة تجري خلفي، وأنا نائم واصحو مستغيثا صارخا.
“عيون” هي سيدة من قريتنا كانت تسكن أطراف القرية البعيدة وسط الزراعة. كانت لها مجموعة من الكلاب التي تقوم بحراستها. يتم تحذيرنا كل مرة من كلاب “عيون” المسعورة عند المرور بالقرب منها. لدرجة أننا كنا نسلك طرقا أطول للابتعاد. حتى كانت المرة التي طاوعتني نفسي واجتزت الطريق التي تحرسه الكلاب. في منتصف الطريق تذكرت كل التحذيرات وأصابني رعب حقيقي, بدأت الكلاب حينها تنبح وبدأت في الجري سريعا .. حتى ادركتني.
كنت ابكي بشدة من الرعب.. كانو ثلاثة كلاب.. عندما عجزت حيلتي وجدتني أبادلهم النباح.. الكلاب تنبح وأنا أصدر أصواتا مشابهة من شدة الرعب.. توقفت.. فتوقفوا.. نظرو إلي واستداروا للخلف.
لم يكونوا بهذا القدر من الشر التي نقلته لنا حكايات الأهل.
هناك حكاية أخرى عن ذلك الغريب الذي يطوف القرية على حصانه أو حماره الضخم ليخطف الأطفال ويذبحهم فداءا لنذور الكنوز الفرعونية المدفونة والتي لا تنفك طلاسمها إلا بدم طفل.
أتذكر جيدا ذلك اليوم الذي كنت عائدا من الحرجة ظهرا ورأيت ذلك الرجل ضخم الجثة يركب حماره الضخم, تيقنت حينها أنه هو. ركضت بكل ما املك من قوة لطفل بعيدا بعيدا. فيما بعد رأيت الرجل مرات عدة حيث كان يسكن اطراف القرية. في كل مرة كنت اراه بعدها لم اكن اقوى على النظر إلى وجهه بالرغم من تأكيدهم أنه رجل طيب.
كان لكل منطقة في القرية عفريتها الأثير وكلبها المسعور. وكان لكل طفل أسطورته المرعبة الخاصة به.
رعاية منهج زراعة الرعب في نفسي كطفل أتت ثمارها وأثرت لاحقا على حياتي.. قبول الآخر الغريب مشكلة في كل المجتمعات المغلقة, المجتمع المغلق هم البشر, وكل دخيل فهو شرير بالطبع, لازلت اتردد كثيرا عند معرفة شخص جديد واكون حذرا ولا استطيع تكوين الصداقات بنفس السرعة والديناميكية التي يتمتع بها أبناء المدن الواسعة. كمية الخوف التي تم زراعتها في أرض طفولتنا الخصبة كانت متنوعة.. المدرسة بالنسبة لنا قبل دخولها كانت رمزا للتعذيب. أكثر الحواديت التي تخرج لنا خارج أسوارها العالية هو عن العقاب الذي يناله من سبقونا إليها.. مع دخولنا للمدرسة وانتظامنا في صفوف الدراسة، كان شكل المدرسين بالنسبة لي شخصيا مرعبا.
اتذكر “عبده” زميلنا في الفصل الذي كان يتحرك كل صباح موهما أهله أنه في طريقه للمدرسة ويكمل نومه في فرن الخبيز حتى لا يكتشف أحد مكانه ويضيع اليوم الدراسي تلو الآخر، حتى اكتشفت أمه الأمر وكانت تأتي به إلى الفصل ومريلته كلها ملطخة بصناج فرن الخبيز الاسود.
أول حادثة مرعبة لي في المدرسة كانت مع حفظ سورة “البينة”، طلب منا مدرس الدين أن نحفظ سورة “البينه” عن ظهر قلب، ومن لم يحفظها فسيناله العقاب. حاولت مرارا وتكرارا دون فائدة، وفي الصباح رفضت أن اذهب إلى المدرسة. حتى اصطحبني والدي إلى المدرسة وقابل مدرس الدين وطلب منه ألا يعاقبني على وعد أن احفظ السورة.
ارتبط عندي حفظ السورة بالعقاب. ربما لو وعد المدرس من يحفظها بجائزة أو هدية، لكان الأمر سهلا. لكن الربط بين العقاب والحفظ جعلني لا احفظ هذه السورة حتى الآن.
نعم.. أنا لا أحفظ سورة البينة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شارك برأيك