الاثنين، مايو 24، 2010

شنطة سمسونايت

أبطأت أبطأت حتي توقفت، ولما توقفت بغير بعيد مني، نظرت اليها فسحرتني ببياضها ورفاهيتها، وتعلقت عيني بعينها وخفق قلبي بكل دقات العمر الباقية، فسيارة مثل هذه يتعدي ثمنها الملايين لتستحق هذا الاحترام والتقدير والشغف، وما كادت ثواني تمر حتي نزل السائق ذو الملابس الأنيقة والأنيقة جدا، وكأنه برتبة طيار أو ضابط بحري برتبة قبطان، وتوجه الي الباب الخلفي وفتحة لينزل منه رجل بجبهة عريضة تملاها الهيبة والجاه، ولا أجد ما اصف به معاليه من كلام، فقد استنزفت كل الكلمات في وصف أناقة السائق، وكان ممسكا بحقيبة مستندات (شنطة سمسونايت) وكأنها من جلد تمساح أو ديناصور عتيق، وتقدم بخطوات لا تعرف عن الهون شيئا، وألاح بوجهة يمينا ويسار وتقدم، ولم يأبه بي مطلقا وكأنه لم يراني او إنني لا استحق أن يراني.
تعجبت من حال الدنيا، أتاحت لرجل مثل هذا كل شئ، وأطبقت عليا كل الجدران، أطعمته وأرضعته من ثديها، وأطلقت ورائي كل كلاب الفقر تنهش في لحمي، فأجبرتني علي الدوران في ساقيتها ليل نهار، فان توقفت لحظة لفتكت بي ومصمصت عظامي، ولكن من الأكيد ومن المؤكد ان كل هذا الجاه لم يأت به جهد رجل واحد، ولن يكون قد تحصل عليه من عرق جبين وكد يدين، فمن اليقين انه ورثه من أبيه، وأبيه توارثه عن أبيه وهكذا، فرفعت عيناي الي السماء، ياربي يارب الوجود، خلقت الوجود من لا وجود، فلن يضنيك أن كنت جعلت أبي ممن لديهم القناطير المقنطرة من المال، لكان حالي الآن أفضل ولتغيرت دنيا ولتغير مصيري، وكنساء الصعيد أخذت أولول وأولول ملقيا عدودات وعدوات.
وصلت الي البيت وصعدت درجات السلم وفتحت باب الشقة ودلفت الي داخل الحجرة وفتحت احد أبواب خزانة الملابس ومددت يدي وأخرجت حقيبة مستندات (شنطة كأنها سمسونايت)، لا ادري عن ماذا ابحث، وما الذي قد جاء بي الي هنا، الي شنطة الأرشيف، حيث السجل المدني للعائلة، فما من وثيقة لأي منا الا لتجد هنا نسخة منها، وأفرغت محتويات الحقيبة علي الأرض، فوجدت العديد من جوازات السفر الخاصة بوالدي- أبقاه الله بصحة وعافية- يرجع تاريخ إصدار أولها الي ستينات القرن الماضي، ومازال أحدثها صالح لعامين آخرين، ثم العديد من الشهادات الجامعية لي ولإخواني، ووثائق زواج إخوتي البنات، وصور لأبي وهو في ريعان شبابه وهو يجوب مختلف المدن المصرية والعربية، وتظهر بجانبه كل الأدوات والآلات المستخدمة في حقل الإنشاءات المعمارية بداية من شبل (كريك) العامل مارا ب"البمب" و"الكرين" حتي الوصول الي عدسة ومخطط المراقب الفني، وتجده في كل الأحوال مبتسماً ضاحكاً حامدا الله علي ما أتاه من نعمة الصحة والعافية، ولسان حاله يقول الرجل من قال ها أنا.
فيا شباب المعمورة كفانا تواكل ولنعتمد علي أنفسنا، مفتخرين دوما باباءنا، فليس من الضروري ان يكون أباك اقطاعي فاحش الثراء او صاحب شهادة دراسية متمرس، او خطيب وإمام مسجد محنك، حتي يستحق ان تفخر به، فكل آباؤنا أناس شرفاء والحمد لله ممن تحملوا أهوال الغربة لربع قرن او يزيد، ولم يفكر اي واحد منهم لحظة في كسب غير مشروع او يغضب الله، فكلهم بلا استثناء "محاربون شرفاء" ضحوا بأنفسهم وعافيتهم من اجل ان يوفروا لنا – نحن أولادهم- لقمة العيش والحياة الهنية والشهادات الجامعية، حاولوا جاهدين ان يجدوا لنا ظروف اجتماعية ارحم من التي عاشوها، فقد أتاحت لي والحمد لله الفترة التي عشتها معهم حين أول ما قدمت الي الكويت فرصة رؤية كيف يبدي ويفضل الرجل منهم ابنه او ابنته عن نفسه، كيف يضنون علي أنفسهم بالعلاج حتي يبتاعوا شيئا كان قد طلبه منهم احد الأبناء، فلا يعتقد احد هنا ان هذه قصة ابي وحدها فهو ليس الرجل العصامي الوحيد في القرية، فكلهم يستحقوا ان يدون اسمهم ضمن أسماء مشاهير طوخ ولكن تم تجاهلهم (بلد شهادات صحيح)، فحق علي ان اصنع لهم قائمة خاصة بهم بعنوان "المحاربين الشرفاء":-
الحاج مسعود احمد حسن، الحاج حنفي مجمود ابراهيم، الحاج أحمد عبدالله الهريدي ، الحاج بكير عبيدالله، الحاج رشاد برغوث، الحاج محمد شاكر، الحاج عبدالحميد جاد ،  الحاج حامد ضيفي، الحاج ابوالصفا التهامي، الحاج عبد الراضي برشاوي، الحاج عبد النبي سعيد عبد الحليم ، الحاج عربي الشنهوري ،  عبد الحليم، الحاج ابراهيم يس، الحاج عبد الستار علام، الحاج محمود بلال، الحاج منصور طايع، الحاج منصور ابراهيم سليم، الحاج حمته شكري، الحاج غفارة الحليبي، والحاج سالم جابر.....لم تنتهي القائمة فهناك المزيد والمزيد من من المحاربين الشرفاء ولكن هؤلاء تعايشت معهم وأكلت وشربت وعرفت ما يبكيهيم ويضحكهم في ان واحد _ أولادهم.

*************
بقلم / حمدي غالب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شارك برأيك