رمز الحكمة ينكسر على عتبة الحضارة..
القُلَّة القناوي.. أسطورة الباكي
تقول الأسطورة إن صانع القلل الأول المصري، اكتشف أن الزيت نضب وأن القُلَّة سوف تجف دون أن تأخذ شكلها النهائي، وبذلك سيضيع مجهوده بالكامل، فما كان منه غير أنه انهمر في بكاء شديد ذلك البكاء الذي سال على خد الصانع وزحف على القُلَّة فلانت في يده لحظتها اكتشف الصانع أنه يمكن استخدام الماء في إعطاء القلل بعضا من ملامحها الأولى.
لكن قبل أن تنتهي أسطورة "الباكي الصانع" تأخذنا الأسطورة أن الصانع الأول أعطى إلى القُلَّة دون أن يدرى بعضًا من ملامح الأنثى التي تتكور بطنها في شهور حملها الأولى ومن يومها صار شكل القُلَّة القناوي مختلفًا عن غيرها من القلل التي تصنع في غيرها من مدن مصر المختلفة.
ومن الأسطورة الشعبية إلى الأساطير الفرعونية تنقلنا صناعة الفخار، إلى الإله خنوم، إله الفخار وخالق البشر من الصلصال، إذ كان الفراعنة القدماء يصورونه على هيئة شخص جالس على عجلته، التي تشبه الآلة التي يستخدمها صانع الفخار الآن في تشكيل صناعته وهي ذات العجلة التي يستخدمها الآن الصانع المصري.
الروائي محمد صالح البحر- صاحب فيلم تسجيلي عن الفخار- أكد لــ"بوابة الحضارات" أن قنا بلد الفخار لم تعد صانعة له، وصار أهلها يتندرون علي من يمتهن صناعته حتى هذا الوقت علي قلتهم وهوانهم، وصارت الأماكن نفسها تتخلي عن أسمائها المنسوبة لها، فقرية البلاص تحولت إلي المحروسة، والطينة إلي المنيرة الحديثة، وصار من الممكن أن تتعرض لسفك دمك بمنتهي البساطة إذا ما تندرت علي أحد بلقب قُلَّة أو طاجن، وكأن المهنة قد بدلت وجهها في وجوه الناس من الحُسن إلي القُبح، أو كأن المدينة قد تنصلت من ردائها القديم وعباءتها القديمة لترتدي فستانا جديدا من تلك التي يجلبها معهم العائدون من بلاد النفط والفرنجة، فرحين بسلامة الوصول.
الفراعنة كانوا يصورون الآلة تحوت إله الحكمة على شكل أبوقردان صديق الفلاح الذي كان الفراعنة يقومون بتحنيطه في إناء مصنوع من الفخار يشبه القُلَّة وهو ما جعل القُلَّة تمثل رمز الحكمة. لكن ارتباط القلة بالأنثى في الصعيد يبدو هو المسيطر في المعتقدات الشعبية لذلك ليس غريبا أن في أعياد "السبوع" تكون القُلَّة موجودة، خاصة للمولودة الأنثى بينما يؤخذ الإبريق في أعياد "السبوع" رمزًا للمولود الذكر.
إلا أن مسميات القلل مختلفة عند الصناع فهي تأخذ أسامي الحلوة والزعنونة والأمورة وقصدية وهذه المسميات المختلفة والأنواع المختلفة جعل للقلة القناوية، مكانة خاصة في العالم، وهو ما جعلها أيضا تتجاوز حدود الاستخدام في شرب المياه إلى استخدامها في وحدات البناء حتى أنهم شيدوا بها بنايات كاملة قديما.
يقول صالح تبدلت القُلَّة بكوب الزجاج، والبلاص والزير بالثلاجة، وطين البيوت بالطوب الأحمر والإسمنت، هكذا تغيرت المدينة وتقزمت المهنة حتى حد العدم، ولم يعد من شيء باقيا منها سوي للذكرى والديكور الشكلي الفارغ، وقَلَّ استخدامها حتى اقتصر الآن إلي خدمة صناعة العسل الأسود فقط، الطعام الوحيد الذي يأبي إلي الآن أن يحفظه الناس إلا في الجرار الفخارية الصغيرة.
للقُلَّة فلسفة خاصة في قنا فهي مفرطة في الذاتية فهي مثلا ليست مشاعا لأحد مثل الأزيار التي غالبا ما كانت تنتشر على امتداد العديد من الطرق والشوارع وأمام البيوت في الريف لسقاية عابري السبيل من المارة والغرباء على حد سواء قديما.
حيث القُلَّة ملك الفرد الذي يملك وحده حق إهدائها لغيره من دون غصب بينما الأزيار مشاعة، لذلك ليس غريبا أن تجد الرجل الصعيدي يضع فوق ثلاجته قلة للشرب تكون له وحده لذلك هي ارتبطت بطقوس شديدة الخصوصية فهم إلى الآن يوصون بكبسها بالملح قبل استخدامها في تبريد المياه حيث يمنع الملح الحشرات من الدخول إليها قبل وبعد استخدامها.
ويحفل الطب الشعبي في الصعيد من العديد من الوصفات التي تستخدم فيها القلة للشفاء فالشخص الذي يعقره الكلب المسعور يوصف له التمر المغموس في زيت الأديرة المعتق حيث يوضع هذا التمر في قلة ويظل يشرب منه المريض حتى شفائه تماما.
يؤكد باحثون أثريون لــ"بوابة الحضارات" أن استخدام الدولاب الخشبي الذي يستخدم في صناعة القلل لتشكيل العجين الصلصال يرجع إلى الأسرة الفرعونية الأولى، إلا أن الباحث الدكتور جمال كمال الدين أستاذ الجيولوجيا بجامعة جنوب الوادي بقنا من خلال دراسة أجراها على الفخار اثبت أن صناعة الفخار بدأت في حضارة نقادة الأولى من عام 4500 إلى عام 4000 قبل الميلاد، إلا إن الغرابة الحقيقية في تاريخ الفخار الفرعونية ما أورده التاريخ أن في الأسرة الثالثة عشر الذي عرف بعصر تكسير القلل، وهو عصر الانحطاط الذي جعل الناس تتجه إلى الكهنة لاستخدام التعاويذ ليحلوا عنهم الذين يحكمونهم فيحضرون آنية من الفخار ويصنعون تماثيل على هيئة الأشخاص الذين يريدون رحيلهم ثم يكتبون التعاويذ بالحبر الأحمر، ويقومون في تكسيرها اعتقادا منهم إن هذا التكسير سيكسر عزائم المذكورين ويقصف أعمارهم ولكن التاريخ لم يذكر لنا أن القلة كانت سببا رئيسًا في رحيل الحكام والتخلص منهم.
الدولاب، بجانب أيادي الفواخري، هو الذي يشكل القطعة والتنور الواحد يسمح بصناعة 6 آلاف قلة صغيرة و3 آلاف قلة كبيرة الحجم وترص هذه الأواني رصا محكما يبدأ من أسفل بالحجم الصغير ويليها بالحجم الكبير بالتدريج في الطبقات العليا التي يليها وبعد الرص تغطى بقطع من الفخار المكسور المتخلف من عمليات الإحراق السابقة ثم تليها طبقة أخرى من الوقود الناعم المندى بالماء الذي يبدأ بإشعاله في أثناء الحريق وذلك لمساعدة إحراق الطبقات العليا من الفخار ولتوزيع النار عليها بالتساوي، هذا بجانب الإشراف عليها من جهة أخصائيون لمعرفة تمام النضج.
ويؤكد صالح البحر أنه ليس الفراعنة فقط من اتجهوا إلى كهنتهم لرحيل المحتل في عصر الاضمحلال وكتابة التعاويذ على القُلَّة فالمصريون المحدثون تغنوا بها في مواجهة الاحتلال الإنجليزي في أغنية صدح بها فنان الشعب سيد درويش في النصف الأول من القرن العشرين في أغنية شهيرة كانت مقاطعها كالآتي ( ليحة قوى القلل القناوى.. رخيصة قوى القلل القناوى.. قرب حدانا وخد قلتين خسارة قرشك وحياة ولادك ع اللي ماهواش من طين بلادك).
قامت صناعة الفخار في محافظة قنا على الجغرافية والتاريخ معا، فجغرافية قنا أعطت لها مادة الطفلة، وهى عبارة عن صخور رسوبية شائعة التواجد في محافظة قنا على جانبي وادي النيل، من مدينة إسنا جنوبا إلى مدينة نجع حمادي شمالا، هذا بجانب تواجد الطفلة في وادي قنا الذي يبعد 7 كيلو مترات شرق قنا، وجبل السراي الذي يبعد نحو 20 كم شرق قرية كرم عمران ولكن المشكلات الأساسية في الحصول على الطفلة، هي الحصول على مادة غنية بالمعادن وهذا ماجعل الباحث الدكتور جمال كمال الدين يذكر في دراسته أن الطفلة لا بد أن تكون خالية من العروق shale وهى أصبحت نادرة الوجود مما دفع مجتمع الفواخرية بالاتجاه إلى استخدام تربة طينية بديلة في قرية المحروسة غرب قنا أو خلط التربة الطينية بالطفلة كما في قرى الدير الغربي أو الاتجاه إلى جبال أسوان بعد طحنه في مصانع بالقاهرة.
الدكتور محمد سعد عبد الله أحد الباحثين الذين تخصصوا في دراسة مجتمع الفواخرية، أكد في دراسة علمية أن محافظة قنا كانت تضم إلى وقت قريب نحو 500 صانع من أمهر الصناع فضلا عن ألف وخمسمائة شيال وعجان وحراق غير أن عددهم تقلص كثيرا الآن فهم الآن يعدوا بأطراف الأصابع مما يجعل هذه المهنة تواجه الانقراض في جميع أنواع الفخاريات من قلل وأزيار وبلاليص إلخ الأنواع فضلا أن هناك أيضا إهمالا حكوميا للفواخرية فاغلب الباقين الآن لا يجدون تأمينا صحيا ومعاشات لهم مما يجعل أبناءهم ينفرون من هذه المهنة التي أصبحت الآن من أفقر المهن.
يقول صالح البحر إنه كتب عن تدهور صناعة الفخار فيلما تسجيليا، وذقنا الأمرين في صناعته ونحن نبحث ـ في مدينتنا ـ عن فاخورة وصانع فخار، ولم يقابلنا كلاهما إلا بمقابل، كان يهبنا المعلومة بطلوع الروح وكأنه يحتفظ بكنز فرعوني قديم، يُخرج منه علي قدر الحاجة، وربما كان معه كل الحق، فلم يعد للمهنة دروب أخرى سوي التسجيل الفني أو الأكاديمي لها، لذا فقد كف الناس عن البحث عن حلول لإنقاذها من الوأد، فقد باتوا كلما حفروا للتنقيب عنها تتكسر تحت معاولهم الرحيمة، بعدما محي بريق الكوب الزجاجي بألوانه المزركشة طعم القُلَّة في حلوقهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
شارك برأيك