عيد قنا القومى

ورحل " نابليون " مقهورا وبقي الصعيد شامخا ..!. بقلم : الطيب أديب

--------------------------
كلما أقبل شهر مارس كل عام أقام القنائيون احتفالاتهم بالانتصار العظيم على جنود الحملة الفرنسية في قرية "البارود " التابعة لمركز فقط بمحافظة قنا ، يوم 3 مارس 1799م ذلك اليوم الحاسم الذي تكبدت فيه الحملة الفرنسية أكبر خسائرها في معارك الوجه القبلي العديدة ، ولم تفلح مطبعة نابليون في إغراء الصعايدة ولم ترهبهم مدافعه وسفنه . وجاءت اعترافات قواد الحملة الفرنسية التي كتبوها في مذكراتهم شاهدة على بسالة وفدائية أهالي الصعيد وسنعرض بعضا من هذه الاعترافات من كتاب المفكر والكاتب الفذ عبد الرحمن الرافعي ( تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم ) .
في شهر فبراير سنة 1799م كان " الجنرال ديزيه " مقيماً في إسنا التي اتخذها معسكره العام وظل يرقب الحال ويتتبع حركات الاضطرابات في الصعيد ، ثم غادرها قاصدا إلى قوص ، وقد شعر بحرج الموقف وأقضى إلى نابليون قبل ارتحاله إلى سوريا بالمصاعب التي تكتنفه وطلب منه المدد ليتمكن من إخضاع الوجه القبلي . قال في رسالة كتبها يصف فيها دقة موقفه :(إننا نسير بلا انقطاع ، وقد ساءت حالة الجنود في ملابسهم وأحذيتهم ، ولم نستطع للآن أن نجمع النزر اليسير من أموال المبري على الرغم من الجهود التي بذلناها ، وأن دعاة الثورة مثابرون على نشر دعايتهم ، وإن علينا أن نحارب ثلاث قوات مجتمعة وهم العرب القادمون من القصير ، والمماليك والأهالي ،ليس من السهل إخضاع هذه البلاد ، ومن الضروري لنجاح الحملة لنا على الوجه القبلي أن ترسلوا لنا أولا ذخيرة كبيرة من الرصاص وكثيراً من الأحذية

كارثة السفن في "البارود"

وكانت معركة "البارود" أشهر معارك للحملة في صعيد مصر حيث كبدت الحملة الفرنسية خسائرا لم تشهدها من قبل فعندما سبق " الجنرال ديزيه " عند سفره من قوص أسطوله الذي كان يسير ببطء في النيل ليلحق بالجيش في أسيوط ، وبعدت الشقة بينهما ، فانتهز الأهالي هذه الفرصة لمهاجمة الأسطول وكان عدده 12 سفينة حربية تقل ذخائر الجيش ومؤونته تتقدمها السفينة الحربية " إيتاليا " هاجم الأهالي هذه السفن يوم 3 مارس 1799م على مقربة من قرية "بارود" وأطلقوا عليها الرصاص فأجابت السفينة الحربية "إيتاليا " على هجمات الأهالي بإطلاق المدافع فقتلت منهم عدداً كثيراً ، لكن الأهالي ومعهم العرب القادمون من القصير تجمعوا وازداد عددهم ونزلوا النيل سباحة وهاجموا على السفن فاستولوا عليها عنوة وأفرغوا شحنتها من الذخائر على شاطئ النيل ثم ركبوها وقصدوا السفينة "ايتاليا " للاستيلاء عليها . وكان يقودها القومندان " موراندى " فضاعف إطلاق الرصاص على المهاجمين ، ولكنه رأي رجال مدفعيته قد أثخنتهم الجراح على ظهر السفينة ورأى من جهة أخرى جموع الأهالي من الشاطئ الأيسر يتحضرون للهجوم عليه ، ففكر في الانسحاب ولكن الريح عاكسته فجنحت سفينته ، وإذ ذاك هرع إليها الأهالي والعرب من كل صوب وحدب وصعدوا على ظهرها ، فتحقق "موراندى "الخطر المحدق به ، ولكنه أبى التسليم ، فأشعل النار في مستودع البارود وألقى هو ورجاله بأنفسهم في اليم قاصدين النجاة ، وانفجر مستودع البارود فنسف السفينة نسفا وتفجرت شظايا القنابل على الشاطئ وقتلت عددا كبيراً من الأهالي ولكن الباقين منهم قاتلوا موراندى ورجاله ف اليم فمات مثخنا بجراحه وقتل جميع الفرنسيين الذين كانوا على ظهر السفينة "إيتاليا " وعلى ظهر السفن الأخرى . وكانت خسارة الفرنسيين جسيمة فبلغ عدد قتلاهم من البحارة والجنود خمسمائة قتيل ، وهى أكبر خسارة مني بها الجيش الفرنسي في الحملة على الوجه القبلي ،وعندما بلغ الخبر نابليون وهو في حملته على سوريا يحاصر عكا حزن حزناً شديدا على ما أصاب الحملة وتدمير سفينته الخاصة وقال ) إن فرنسا قد فقدت "إيتاليا" إن شعوري لا يكذبني

 .) 

رسائل ملتهبة 

وقد سجل قواد الجيش الفرنسي في رسائلهم وتقاريرهم إلي قادتهم مذكراتهم ويعترفون من خلال سطورها بصلابة المقاومة في الصعيد ووطنية أهالي الصعيد الذين لا يتعاونون مع الأعداء ويفضلون الموت على الحياة تحت ذل المستعمر ، وفى رسالة إلى الجنرال ديزيه عن معركة أبنود يقول: ( إننا نعيش هنا عيشة ضنكا فإن جميع القرى تقفر من السكان كلما اقتربنا منها ولا نجد فيها شيئاً من القوت ولا نرى فلاحا واحدا يدلنا أو يأتينا بالأخبار أو يحمل رسائلنا ، ولا ندري السبب في هذه الحالة ، على أننا مع ذلك لا نعمل عملا ضاراً في البلاد التي نجتازها .)
ومن أسيوط كتب القائد "ديزيه " إلى "نابليون" في 17 مارس 1799 م يقول له في ختام رسالته ‏‎frown‎‏ رمز تعبيري إن البلاد في ثورة وليس من السهل أن نتبادل الرسائل بسرعة ، وإني أطلب الذخائر من القاهرة فقد نفذت ذخائرنا ، وسأذحف على شاطئ النيل الأيمن لاكتساحه وطرد المماليك وحلفائهم ، على أنى لا أكتمكم الحقيقة وهى أننا مع ذلك لا نكون سادة البلاد لأننا إذا أخلينا بلدة لحظة واحدة من الجنود عادت إلى حالتها القديمة ).
وكتب الأدجوان جنرال "دنزلو " إلى الجنرال "برتييه " من أسيوط في 17 مارس 1799 م يستعجله المدد يقول: ( إذا لم تتفضلوا بإرسال الأدوية إلينا فإن مرضانا الذين يزداد عددهم كل يوم سيموتون من البؤس والعذاب ، ويحق لي أن أتساءل هل نحن في منفى سحيق بالصعيد فلا يذكرنا أحد ؟ إني أكرر لكم إننا في بلاد أصعب مراسا من مديرية المنصورة ، وإذا سرنا إلى جهة من الجهات ظهرت الثورات في الأماكن التي نخليها ، فعلينا أن تكون دائماً على أهبة الزحف والتدمير فمتى تنتهي هذه الحالة ؟).
لقد انتهت الحالة ورحل نابليون بما تبقى من جنوده وبقيت مصر مقبرة للغزاة وبقي الصعيد شامخاً يقهر الغزاة ، على مر العصور فلا نامت أعين الجبناء !!

محطة أخيرة

انتصار أبناء قنا على جنود الحملة الفرنسية تم تجاهله واستبعاده من مناهج التاريخ لطلابنا رغم أن هزيمة جنود نابليون هذه أكبر هزيمة لحقت بجنوده وقتل فيها أكثر من 500 جندي فرنسي ،وحرقت فيها سفنه بما فيها سفينته الشخصية إيطاليا ،وبعدها رأى نابليون أن لابقاء له في مصر والشام فرحل مهزوما.