الثلاثاء، ديسمبر 28، 2010

الصماء البكماء

الصماء البكماء

كم كانت الليالي قاسية اكافح فيها الوحشة والكآبة لا اعرف ان كنت هنا او انني مازلت هناك، لا اعرف انني امسيت في وطني ام انني مازلت في البلاد البعيدة حيث اللا وطن، فانني اجلس في دار يقولون لي انها داري، لا شئ فيها يذكرني بطفولتي او ايام الصبا، اشعر بانني اتواجد الان في عالم غير العالم ، اصحاب الصغر أراهم وقد اكفهرت وجوهم من لكمات القدر، وكل شئ اكتسي بلون الاقحواء هذا ان كان له لون أصلا، فتقدمت بخطواتي تسبقها الامال وحنين الذكريات، ممسكا بقطعة خشب ذات إنثناء بها ثلاث من المسامير البارزة، ووضعتها في ترباس خشبي وفتحت الباب، وانطلقت بداخل الدار، فتحكي لي جدرانه ايام عمر قد ولي، احاجيج الصغر وصرخات الالم وقهقهات الطفولة ودموع الفشل والسقطات وزغاريد النجاح والفرح، وعلي الجدران حيث مازالت رسوماتنا وكتباتنا محفورة بكل ما كانت تحمله من اماني وقت ان كان لنا اماني وامال، إنني في بيتنا القديم الان وبالتحديد في الغرفة الامامية في الدور الاول، حيث كانت غرفة للضيوف في النهار ومعمل دراسة بالليل فاستخدمنا جدرانها سبورة ندون عليها جداول الدروس والمذاكرة والامتحانات، اطالع الجدران الطينية الان وكانها جدران معبد فرعوني يحمل في طياته كل حنين الذكريات.

فهذه الصورة رسمتها وانا في الصف الخامس الابتدائي، وهذا الجدول كتبه اخي وهو في عامة الاول من الدراسة الثانوية الازهرية، وهذه الزينة علقناها قبل زفاف اختي بيوم، والاية القرانية هذه وضعها ابي بعد وصوله من رحلة الحج بيومين وهذا النقش فعله اخي الاكبر عندما كان يمارس هواياته المفضلة في الابداع ، وهذه الثقوب كان بها مسامير انتزعناها عندما كان احد الجيران في حاجة لمسامير ليثبت بها اسلاك الكهرباء الممتدة علي جدران منزله الخارجية، فالجدران هذه ليست مجرد جدران طينية ولكنها جدران الذكريات.

ليس كرها في التطور والبناء والتعمير ولكني بصراحة أكره تلك البيوت الاسمنتية القبيحة، واجهتها صلفاء وداخلها اجوف القلب وتحتفظ في احشاءها بشمس الصيف الحارقة وبرودة الشتاء السيبيري، جدرانها قد حرم علينا وعلي اطفالنا المساس بها، وضعنا عليها اصباغ زيتية ومائية فاصبحت جدران صماء بكماء لا تحكي ذكريات ولا حتي صياح الديكة، فان تبدل عليها اهل بعد اهل لن يشعر اي منهم بمن سبقوهم، فلاتسموا هذا ديار ولكنها ثكنات ، والثكنات أنا لا أعتبرها أوطان.

كانت بيوت بسيطة حقا، لبنات يتخللها قليل من الطين، ولكنها كانت بيوتا سعيدة للغاية، تتعاطف مع ساكنيها فلا تكلفهم الا قليلا، لها من الجاذبية لتجعل افئدة اهلها ترنو اليها دائما، تجذب قلوبهم واهواءهم فلم يكن يتغرب احد منهم الا مضطرا غير طماع، كالاعشاش لا تتركها طيورها الا اذا كانت خماصا ، اما الهياكل الاسمنية اليوم فهي سبب رئيسي للغربة ولضياع سنوات العمر، اصبحنا نخرج بطانا لنعش في البلاد البعيدة خماصا لناتي بالمال لنجرف اخصب اراضينا لنشيد عليها منازل جدباء لا نسكن فيها، وان زرناها فلا نشعر انها ديارنا، وانما هي ثكنات، والثكنات انا لا اعتبرها اوطان.



أ. حمدي غالب طايع
طوخ في 15 نوفمبر 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شارك برأيك