السبت، أبريل 10، 2010

حريق القاهرة



انتهي العام الدراسي بحلوة ومرة، بمرارة الاستيقاظ مبكرا، ومرارة وقفة الطابور في برد الصباح، ومرارة التعليمات الصارمة الالتزام بالصمت والنظر الي السبورة، وان تمنح المعلم سمعك وبصرك وتركيزك كهبة مقابل لا شيء، ولكن المصيبة الأكبر تأتي إذا أصابك النسيان فلم تحضر كتابا ما او كشكول ستجد اتهامات تكيل لك كيلا، هذا إهمال ورعونة وكيف تنسي وثكلتك أمك ، وقد سئمنا طول العام من سماع هذا السؤال التقليدي المستفز ماذا تريد أن تصبح في المستقبل ؟ وكنا نرد بالأكاذيب بأننا نتمنى أن نلتحق بإحدى كليات القمة بينما كانت عيوننا معلقة ببريق لاعبي الكرة والمغنين اللي مش خرنج. 

وها قد جاءت الأجازة بما تحمله من فرحة ومتعة مرح ولعب ولهو وسهر وكسل، وكالعادة فإننا نقضي أجازة الصيف في القاهرة حيث الحرارة اقل والجو ألطف ، وتحدد موعد السفر وتم شراء التذاكر ، وفي ليلة السفر أصابني الأرق لم استطع النوم ، كسجين اوشك علي الهروب الكبير ، فتارة انهض لأطمئن أن كل حاجياتي موجودة داخل الحقائب وتارة أخري لأنظر في المرآة وأمني النفس بالغد المشرق ، وكان الليل بي رحيما فلملم أثوابه وتسلل ، وبدأت موسيقي الكون تعزف ، وشَدْت الطيور وتمايلت ، وتراقصت أوراق الشجر مع نسيم الصباح ، والشمس بحياء العزاري تطل برأسها من أعلي النيل، وخرج الفلاحون خماصا يسترزقون ، وارتديت ملابسي وتزينت وانتظرت. 

وخرجنا من القطار وأحصينا حقائبنا وغادرنا محطة "الجيزة" واستقلينا سيارة أجرة متجهين الي بيتنا القاهري ، وفي الطريق تعلقت عيوننا ولم تغمض ، وغمرتنا البهجة لرؤية اللوحات الإعلانية الالكترونية ، ويافطات المحلات التي تتراقص أنوارها ، ونظافة شوارع القاهرة التي تختلف عن شوارع قريتنا فلا تجد فيها فضلات ماشية أو غنم ولا أعواد ذرة ملقاة بعبثية فيها ، وما أبرهني اكثر هو أسماء الشوارع ذاتها ، حيث تجد أساطير التاريخ والحضارة ، وليست اسماء دروب وشقوق ، ووصلنا الي مسكنا العالي القوي الذي بني من أحجار وليس من لبنات تذيبها أمطار الصيف، حيث الأمان الأكثر فلا خوف من جحور ثعابين ولا عقارب. 

ودارت الأيام وتسللت السنون وتغير الحال، فلم تعد بلدتنا كما هي ، فازدادت بريقا بشبابها ، وتغيرت مبانيها وذادت صلابة وجمالا ، باختصار تغيرت طبوغرافية القرية ، وتدحدرت القاهرة لتصل الي مستوي الكارثة ، فتحولت عمارتها عششا ، وشوارعها دروبا وحواري قذرة ، وجوها ملوثا بضوضاء وعوادم ودخان ، حتي اماكن وسط البلد ، قلب الحضارات كلها ، ومركز فخر واعتزاز القاهرين والمصريين جميعا أصبحت ضحية خلاف الحكومة مع شركات جمع القمامة ، فأضحت أكوام القمامة تناطح اعلي الأبراج، وشهرتها تنافس الأهرامات ، لدرجة أنه من الممكن حرق القاهرة الكبري وضواحيها وذلك باستخدام عود كبريت واحد لاغير وبدون أي مواد بترولية، ولا حياة لمن تنادي فعفوا فنحن حقا نعيش في الزمن التكتوكي. 

بقلم / حمدي غالب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شارك برأيك